لا يولد الفساد سوى الفساد

  


هل تخيلت يومًا نفسك مكان شخصٍ آخر؟ شخص صاحب نجاح كاسح، أو مالك لسلسلة من المطاعم يدر منها الملايين، أو مشهور صورته على كل غلاف وصيته بلغ نصف الكرة الارضية.

قضيت جل طفولتي وأنا أتخيل أنني لاعب كرة مشهور، أدخل الى الملعب والجماهير الوافدة تهتف باسمي. ابتسم وأحيي من حولي فتتجه الكاميرات ناحيتي. بالنسبة لي الهدف مجرد بضع مناورات متبوعة بركلة، أمر اعتدت فعله وفعلته مئات المرات، لكن بالنسبة لهم كان كالضوء نهاية النفق، الحد الفاصل بين اليأس والأمل، الجبل المنزاح بعد وهن، الفرح الغامر بعد سنين من الهم. 

هذا كان حلمي في صغري. والآن المسافات بيني وبين نفسي التي عهدتها قد امتدت. العمر مر كالدهر، تنقلت بي الأيام بين الحلم والواقع، تخبطت فيما بينهما حتى تيقنت أن حلمي يبعد عني مسافة عمر كامل.

فلنعد للبداية.

ولدت كأي فتى عادي طينة قابلة للتشكيل، وكان لدي المقومات الضرورية للنجاح لكنني تعثرت بنشأتي وأخذت حياتي منحنى آخر. كان والدي من أنواع البشر الذين اعتاد الناس تحذير الأطفال منه، شرٌ على العالم بمعنى الكلمة، لم يكن حتى يسعى ليجلب لنا الرزق، ولا أعلم ماذا كان يفعل بكل المال الذي كانت تجنيه أمي. أمي احتملت مرارة الشقاء الذي كان يتسبب به والدي من ضرب وإهانة، ومرارة صعوبة كسب الرزق عندما تكون مكروهًا من قِبل الناس. 

بالتأكيد يمكننا توقع مستقبل طفل نشأ في ظروف كهذه، ليالي طويلة لا تمر دون شجار أو صراخ وعنف بشكل يومي. كنت أتساءل دومًا ما الذي يدفع أمي للتحمل ومسايرة والدي في متطلباته واحتياجاته رغم كل ما يفعله بها.

عندما أكملت ثمانية أعوام تشاجر أبي مع أحدهم وزُج به في زنزانة ولم أره بعد ذلك أبدًا. ولكن رغم ذلك ظلت أمي سجينته واستمرت بفعل أوامره، ذكرني ذلك بالطائر الأسير الذي من شدة انصياعه لا يلحظ أن الأبواب قد فُتحت ولم يعد مضطرًا لقضاء الوقت بين القضبان، ولأنها أبت المضي قدمًا تركتها وكل ما يربطني بها ورحلت.

اتخذت الشوارع مسكنًا ومكان ترحال في نفس الوقت، واستمريت بالعيش على النهب والسرقة. أول شيء أثار اهتمامي كان كرة القدم. كنت أشاهد الأطفال وهم يتشاجرون على تقسيم الفرق، ومن ثم الركض خلف الكرة والسعي لإحراز الأهداف. أبهرني التعاون وتسخير القوى والنضال المستمر من أجل الدفاع عن الفريق الذي تكون توًا، وكل ذلك في سبيل الحصول على الصدارة. بدا الأمر بسيطًا وعصيًا على الفهم لشخص مثلي، لماذا يسعى المرء خلف أمور لا تتعلق بالطعام أو المال؟ أردت أن أفهم ولذلك استمريت بالمراقبة حتى أُعجبت بها.

علمت فيما بعد أن ما يلعبه أطفال الحي هو نسخة مصغرة لما يقام على مستوى عالمي، وأصبحت أشاهد المباريات العالمية على شاشة وُضعت في إحدى محلات الحلاقة. ولأن المالك يكره المشردين كان يطردني إذا ما رآني، لذلك اضطررت في النهاية للمشاهدة من على بُعد عدة أمتار وكنت أواجه صعوبة في تحديد اللاعبين أو حتى أعجز أحيانًا عن تحديد الفائز في نهاية المباراة. لكن بضع مناورات أشاهدها قد جعلت المخاطرة تستحق العناء. 

رغم كمية الإعجاب التي أكننتها تجاه كرة القدم أو أظهرتها بعد أن فاض وصعب إخفاءه، لم يدعوني أحد الأطفال يومًا للعب معهم. ربما أخافهم شكلي المشرد، أو أن توصيات أهاليهم بالابتعاد عني بسبب سمعة والدي كانت هي السبب. لماذا كان علي تحمل عقوبات لأمور لم اقترفها؟

تحول الحب إلى هوس، وتجرأت بالاقتراب بعد أن كنت أتابع من بعيد. تلك الشاشة التي حرمت منها كسرتها، وتلك الكرات التي كانوا يلعبون بها ثقبتها. بدأت بالقيام بتلك الأفعال على تردد وخفية، ولكن سرعان ما تبدد الخوف وصرت أقوم بهذه الأمور علنًا. استخدمت سكاكين المطبخ لإفساد الكرات، والحجارة لتكسير الشاشة وكلما أبدلوها كسرتها من جديد. وعندما لم تتوقف المباريات قررت إيقافها بنفسي وإيقاف من أنشأها ونظمها، وتحول هوسي بالعبث بالكرات وشاشات التلفاز إلى العبث بأجساد الناس.

ارتكبت مجازر دون أن أفهم ما تكنه نفسي، أو ما يدفعني لفعل ذلك، أو ربما كنت أفهم دوافعي ولكن من حولي لم يتفهم. شكلي البرئ أغفلهم عن أفعالي، وعندما تصاعدت الشكوك وقرر الناس ردعي كان الآوان قد فات. ربما لم حصل العطل بسبب منعي من مشاهدة المباريات أو المشاركة في اللعب، بل كان أعمق من ذلك بكثير، كان العطل متأصلًا في نشأتي.

أقف الآن وقطرات المطر تنساب بين اصابعي، تبلل شعري، و انغمرت ملابسي. أنا هارب من القانون، بلا مأوى وبلا عائل. أنا الوحش المخيف الذي قضى على حياة العشرات من البشر.

وهكذا لا يولد الفساد سوى الفساد.

 

 

    إرسال تعليق

    0 تعليقات