المناوب في الجبهة


أجلس على المكتب وأمامي إضاءة حاسوبٍ تعمي عيني. أتظاهر بفهم المعلومات التي تُعرض على الشاشة وأتخذ القرار بناءً عليها، بعد ذلك أطنب في الشرح -رغم ضيق وقتي- للفتاة التي تجلس بجانبي، وذلك باعتبار أنني أكبر منها بعدة شهور وأكثر خبرة منها.

 

إنني بالنظر للشاشة لا أستذكر الدروس، فقد مضى على سنوات الكلية سنواتٍ أخرى عديدة. كما أنني لا أقضي وقتي في اللعب على ألعاب الحاسوب. ولست أكتب هذه القصة لأن الكاتب كتبها على لساني من مخيلة رأسه.

بل أراجع ملف المريض الذي حوله الطوارئ للتو، طلبًا للمشورة الطبية.

 

مريض أقدم على فعل شنيع في حق النفس التي ائتمنها الله عليها، وجلبه أهله بعد أن يئسوا من إقناعه بالسبل المتاحة. 

يبدو أن هذيانه والأصوات التي تملي عليه ما يفعل أقوى من كل شي آخر. 

 

إن هذه المستشفى تظنني طبيبة نفسية، قادرة على إنقاذ الأرواح من قبضة العقول المعتلة، بينما أنا بالكاد أنقذ نفسي من نفسها. وفي الحقيقة لولا لطف الله لرأيتني أنا أطلب المشورة عند الطبيب.

 

أطمئن أهل المريض أن حل مشاكله يكمن بين يدي، وأنهم قد وصلوا للشخص الصحيح. كل هذا ليتوقفوا عن ملاحقتي في أرجاء الطوارئ.

وما أن تستقر قلوبهم حتى أهرع للأخصائي النفسي لأسأله عن الحل الذي وعدتهم به.

 

انتهي منهم ويباغتني طبيب الطوارئ.

-"أنتِ طبيبة الباطنة؟"

-"هذا صحيح". أجيب كأن أحدهم يملي علي ما أقول.

 

ومن ثم يتلو علي حكاية المريض الذي أخذه من الباب إلى السرير، ثم عاد إلى قاعدته لكي يكتب التحاليل ويدخل المحاليل. وبعد ذلك ينادي الممرضة لكي تنفذ ما طلب.

أحيانًا دون أن يمس المريض، وأحيانًا بعد كلمات مقتضبة يتبادلها مع رجل الهلال الأحمر الذي جلب المريض من منزله.

وما أن يُظهر المختبر التحاليل حتى يستدعي طبيب الباطنة من مخدعه، ويسلمه المريض كما استلمه هو، دون أن يفعل شيئًا يذكر.

 

أحاول كبت غيظي منه والتحاور بشكل حضاري، ولكن مكبرات المستشفى تصدني عندما تُفتح ويصدح في الأرجاء (كود ستروك).

تعلمنا بدخول مريض داهمته أعراض جلطة الدماغ، واستطاع أن يصل للمستشفى في الوقت المناسب.

 

أؤجل حواري الذي لا يجلب نتيجة على أية حال، وانطلق للمريض الذي يحتاج تدخلًا عاجلًا.

كل دقيقة تمر ترافقها خلية عصبية تذهب دون رجعة. ونقف خلال هذه الدقائق لنقرر بعد مشيئة الله إن كان سيخرج على قدميه كما كان، أم أنه سيفقد قدرته على المشي.

نجري سريعًا طوال الوقت ونجد من يطالبنا أن نجري أسرع.

 

وما أن ننتهي من مريض حتى يأتي آخر. وبين هذا وذلك يمر الوقت حتى ينفد مني. والاتصالات تتوالى دون توقف. 

مريض جراحة العظام الذي ارتفع ضغطه من مرأى أطبائه، ومريض جراحة الأعصاب الذي انخفض الصوديوم لديه ويحتاج للمحاليل التعويضية، ومريض الجراحة العامة الذي ارتفع سكره قبل العمليات.

كلهم يستدعون طبيب الباطنة ليصلح مشاكلهم.

هكذا قضيت صباح الأحد بين ازدحام أفكاري وشوشرة المرضى.

 

ولا يتوقف العمل بالعودة للمنزل.

أقضي ليلتي والأرق ينغص مضجعي، ماذا لو لم أعطِ المريض حقه؟ وماذا لو أنني أخطأت في الجرعة؟ ماذا لو عُميت عيني عن شيء يستدعي التدخل الطارئ وقضى المريض نحبه منه؟ 

 

أعاود التفكير في قراراتي وأُتبع ذلك بمناقشة مطولة عن الخطة العلاجية مع زملائي. أستزيد بها في العلم وأفتح بابًا للاستذكار، فلا يزال أمامي الكثير لأتعلمه.

 

وهذا يحصل رغم مراجعتي لملفات المرضى خمس مرات قبل أن أغادر المستشفى، متأملة أن أقضي بقية يومي مرتاحة البال.

ويأتي اليوم التالي ونخوض كل هذه التحديات كأننا لم نذقها بالأمس.

كله يهون في سبيل التخفيف عن المرضى. 


ولكن ما لا يسر بشر هو أن أجتهد كل يوم ومن ثم تُجحد جهودي، ويُذم عملي في غيابي، علنًا، أمام الزملاء، كما لو أني لم أبت ليلتي أقاتل من أجل ألا يموت أحدهم.


    إرسال تعليق

    0 تعليقات