من الهتان إلى السيول



يستدعي الوصول للوجهة المختارة أمور مختلفة. عقد النية، بعض الاصرار والعزيمة، وعجلات مزودة بالطاقة أو أرجل تسير دون كلل. وقد ظننت أن هذا كل ما يحتاجه المرء للوصول. ولكن توجد أمور كثيرة لا نضعها في الحسبان بسبب ضآلة الاحتمالات.

وفي النهاية مشيئة الله فوق كل الوسائل، وإن جاهدت الأنفس فلن نلقى إلا ما كُتب لنا.


كان الجو صحوًا، والشمس تتسلل بأشعتها دون أن تطغى، ليست ساطعة للعيان ولا غائبة عنه، بل ابتغت ما بين ذلك سبيلا.

والجو معتدل الحرارة يشبه في وصفه صباحات مكة الشتوية. 

خرجت مطمئنة البال فالجو صافٍ، ولم تشر توقعات الطقس لأمطار يحتمل هطولها.


قضيت يومي ما بين مرضى يتناوبون بالدخول لأربعة جدران يُطلق عليها العيادة. وما بين مريضٍ والآخر يناقشني الاستشاري في الحالة ويدلي بالآراء، وأُتبع أنا ذلك بقراءة مقتضبة لبعض النقاط. فقد كان أول يوم لي في قسم أمراض المناعة والحساسية. ولا يزال لدي الكثير لاستذكره.

تفرقت بنا الطرق بعد انتهاء العيادة، وانطلق كلٌ منا لوجهته. تشاورنا أنا وصديقتي في كيفية قضاء وقتنا. هل نحضر عيادة ما بعد الظهر؟ أم نتفسح في مكان أجمل وأقل مللًا؟ وبالطبع اخترنا الخيار الثاني.


في البداية خرجنا وكلنا وجل عن مدى صحة قرارنا، ولكن القرار ثبت بعد أن رأينا من خلال النوافذ الأرض مكسوة بقطرات الهتان.

بالخارج أصبحت السماء الصافية مترعة بالغيوم، و تلامسنا قطرات الهتان ونحن تحت ظلها دون أن تترك وراءها بللًا من خفتها.

سلكنا الطريق الأطول نحو سياراتنا لكي نقضي وقتًا أطول تحت هذا الجو الجميل، ونحن نرتشف مشروب الشوكولا الساخن.

انتهت نزهتنا القصيرة ما أن أصبحت السيارة مرأى العين وتفرق كلٌ منا لوجهته. 

لم نكن وحدنا من فعل ذلك، بل إن الشاغل والمشغول قد خرجوا للقيام بنفس النزهة.


خلال دقائق تحول الهتان إلى مطرٍ غزير، واختفى المشاة من حيث أتوا. بينما دخلت أنا سيارتي أحتمي بها.

وعلمت أن وقت المغادرة قد حان. خرجت من حدود المستشفى وأنا محتارة في وجهتي. هل أذهب لمنزلي الذي يبعد ٥ دقائق لكي استريح قليلًا حتى يهدأ المطر. أم انطلق مباشرة باتجاه منزل أهلي لكي اصطحب ابنتي.

توجب علي اتخاذ القرار قبل مفرق الطريق، وقررت أن أذهب لأبقى مع ابنتي حتى استقرار الأجواء ومن ثم أعود للمنزل، وتأملت أن يخالفني المطر في وجهتي.

جالت في رأسي كل هذه الأفكار حتى أعلنت إشارة المرور بالسماح بالعبور.


كانت عدة كيلومترات بين المكان الذي جالت في بالي الأفكار فيه، وبين المكان الذي انصبت فيه الأمطار من الأعلى كالشلال.

اختلطت المياه مع الواقع وقلبت الرؤية حتى عُميت، وأصبحت لا أرى أمامي لا أرضًا ولا سماء.

اول ارتطام للمياه على زجاج السيارة كانت الصفعة التي أرادت مني مراجعة قراراتي. كان أمامي طريقين، أحدهما الاستمرار للأمام كما قد قررت سابقًا، والآخر هو أن ألتفت وأعود من حيث أتيت لكي استقر في منزلي عدة ساعات حتى تهدأ الأمطار. فما زلت وقتها في بداية الطريق.

مرة أخرى تجاهلت احساسي وقررت المضي قدمًا، فقد عهدت من الأمطار اشتدادًا يتلوه رخاء، وتفاوت في الانهمار بين حي وآخر.

ومع كل متر أقطعه تزيد كثافة المطر ولولا أنوار السيارة التي أمامي لفقدت دليلي. انخفاض سرعة الأنوار التي أمامي أو توقفها أشار إلى وجود برك الماء. تلك البرك التي ادخل فيها دون أن أراها.

مسيرة بطيئة ومصيرية اقتفيت أثرها أنا ومن معي من السيارات، وكأننا لا نملك خيارًا آخر.

وكان هذا الحال معظم الطريق. أستودع الله نفسي في كل دقيقة واستمر في السعي.


عندما اقتربت من وجهتي توقفت الشلالات عن الارتطام بسيارتي. اتضحت الرؤية قليلا وأصبحت أرى تلك الشلالات البعيدة التي تعبر بين صخور الجبال وتصب من مجراها إلى الأرض.

قد هانت الأمور، فها هي ذي الرؤية قد اتضحت، والسماء قد صفيت، ولا أرى سوى بقايا المطر الذي قد توقف. وماذا تكون بقايا المطر مقارنة بالمطر أليس كذلك؟ أو هكذا ظننت.


كيلومترًا نحو الأمام، مخرج ومن ثم بعض المنعطفات. هكذا رسمت ما تبقى من الطريق في رأسي. ولكن الرسمة لم تقترب حتى من الواقع.

كان كيلومترًا نحو الأمام كما تصورت ولكن ما تلا المخرج كان بحيرة من السيول. رأيت السيارة تلو الأخرى تنغمر في السيل وتكمل المسير حتى أتى دوري. تعوم السيارات داخل الماء وتستمر في السعي، وكأن السعي قد يؤدي إلى نتيجة.

جاملتني سيارتي في مترين من المسافة ومن ثم أذعنت. مهما كبست لأزيد من العزم ابت السيارة ان تتحرك. 

توقفت السيارة وسط البركة -أو ما يُدعى الشارع سابقًا- وكلما مرت سيارة من خلفي دفعت الأمواج التي ولَّدتها بسيارتي جانبًا، وأتوهم لوهلة أن سيارتي قد عادت للحركة. 


لم أصدق ما يحدث أمامي حتى خرج ثلة من الرجال ودفعوا بسيارتي وأوصلوها لمكان مرتفع تستقر فيه. وأخبرني أحدهم أن اتركها تجف وسوف تتحرك من جديد.

لا نجدة أطلبها سوى من رب العالمين، أي شخص آخر استنجد به لن يستطيع أن يصلني إلا لو حاز على هيلوكبتر.

٣ ساعات مضت وأنا داخل السيارة المتعطلة. جفت الأرض وعادت السيارات لمساراتها ولكن سيارتي لم تجف، ولم تعد للحركة. ولكن على الأقل استطاع أحدهم أن يجد طريقًا إلي.


وهكذا انتقلنا من الهتان إلى السيول



    إرسال تعليق

    0 تعليقات