أقف أمام الجمع الغفير لاتلو حكايتي، حكاية اضطراب الوعي وما يؤدي إليه.
اسمي ريم، طبيبة مقيمة في قسم الباطنة في أحد مستشفيات مكة المكرمة. أقوم بخدمة حجاج بيت الله الحرام في هذا الموسم، ولدي وفرة من الوقت على خلاف ما تتوقع.
يبدأ دوامي الساعة الثامنة صباحًا. أمر من خلال صعوبات التنقل في مكة المكرمة خلال الحج وآتي المستشفى جهادًا، والوصول للمشفى ليس سوى بداية السعي.
مرضاي الذين أتابعهم يقبعون حيث تركتهم بالأمس، أمر عليهم واحدًا تلو الآخر. أطبب آلامهم، وأطمئن قلوبهم، ومن ثم أقص الملخص اليومي على الاستشاري ويدلي هو بآرائه.
بعد ذلك نقضي فترة ما بعد الظهر في الاهتمام بشئون المرضى. حجز مواعيد الأشعة التشخيصية، وطلب العلاجات من الصيدلية، وضخ المحاليل في الدم حتى يستقر ضغط الدم، وغمرهم بموسعات الشعب الهوائية حتى تتحسن نسبة الأكسجين.
كل ذلك في سبيل تيسير خروج المرضى بكامل صحتهم لإكمال مناسك الحج.
بعد كل هذا نفرغ لتناول الطعام، والنوم، وخوض المحادثات التي لا تنتهي بيننا. إلى أن تنقضي مناوبتنا التي دامت ١٢ ساعة. ومن ثم نعاود الكرة من جديد في اليوم التالي.
وبسبب طول ساعات العمل كان زملاؤنا يقترحون علينا كل يوم موضوعًا نقرأه، لكيلا تتبدد ساعات الدوام دون فائدة تعود علينا.
وكان الموضوع الذي وقع عليه الاختيار ذلك اليوم هو اضطراب الوعي وما يؤدي إليه (decrease level of consciousness)، وقد تقرر من الأمس أن تحضير الموضوع بين يدي مريم، ولا شك أنها قضت ليلة أمس وفترة العصرية في الاستذكار من أثخن المراجع.
وقد قُدِّر أن تنشغل مريم مع أحد المرضى وتغيب عن اللقاء.
لذا عندما نادى كبير المجلس اسمي على حين بغتة بهت وجهي وواجهت ما لم يكن في الحسبان.
إنني أتعامل مع حالات اضطراب الوعي بشكل يومي، لكنني الآن أعجز عن استحضار أي جملة تسعفني.
استطعت اخفاء اضطرابي بنبرة صوتي، ولكن ما تحدثت به على مسامعهم قد فضح قصر فهمي وقلة استعدادي.
"أسأل عن التاريخ المرضي، افحص المريض، أطلب أشعة مقطعية"
هذا ما عرضته، متوقفة برهة من الوقت بين كل جملة والأخرى. ومن ثم صمت صمتة المنتهي الذي ليس بعد حديثه شيءٌ يُقال.
موضوع اضطراب الوعي هو موضوع شائك يكثر فيه الكلام. عدد غير محصور من الأسباب يؤدي إليه، منها ما هو بسيط ومنها ما هو قاتل. إنه موضوع يُشرح للطلاب في محاضرات تتجاوز مدتها الساعات، ويخرجون منها دون أن يدركوه.
نظر إلي كبير المجلس وتعابير وجهه تحمل خلفها انبهارًا كبيرًا. ليس من براعة عملي، بل من قبحه.
صدحت القاعة بالضحك، وأصبح صيتي يتردد في جميع أروقة المستشفى، وبين أسطر المدونات.
0 تعليقات