اعلان بدء صعود الطائرة قد دوى، وتزامن معه تغير حالة الرحلة على كل شاشات المطار، حتى لا يُعذر الأصم واللاهي عن النداء عن اللحاق بالرحلة.
لبى الناس النداء واصطفوا في المسار المخصص وكلٌ منهم ينتظر دوره.
أناسٌ من مختلف الجنسيات، بعضهم من ذوي الشعر الأشقر، وبعضهم قد خرج من منزله محرمًا، والبعض الآخر قد احتضن أطفاله بينما يعتني شريكه بالحقائب.
منهم من اكتست بحجابها وألقت عنها الزينة، ومنهم من تجملت للطائرة بمساحيق الوجه ومجفف الشعر.
كلٌ منهم بدا عليه مقصده، المعتمر بإحرامه، والعائد لوطنه بعد غياب بعلامات اشتياقه، والزائر المتشوق لاستطلاع المدينة، وقد بدا على المقبل للعمل في بلد أجنبية التوجس.
كان من بينهم امرأة ذات شعر أحمر، متجهمة الوجه، قليلة التعابير، ومتمسكة بمتاعها في صمت. كأنها قد استنفذت صبرها في انتظار افتتاح البوابة وتوجب عليها الآن التصبر لما تبقى من الرحلة.
ورجلان من الجنسية الهندية يرتديان الاحرام ويحملان في أيديهما متاع الدنيا، حقيبتا ظهر وحقيبتان تُجر بالعجلات، وكأنهم أخلصوا النية ليس بإلقاء الذنوب وراء ظهرهم وحسب، بل بإلقاء متعلقات الحياة والعودة من العمرة دونها.
وامرأتان قد قضتا فترة السفر في التبضع واختيار الهدايا، وتوجب عليهما الآن حشرها في كل كيس وحقيبة وقعت عليها الأعين.
وامرأة تسافر منفردة، وقد حملت رغم جسمها الضئيل حقيبتين على أكتافها، وجرت الثالثة خلفها.
ومن بين كل هؤلاء الأشخاص، ثلة قد فضلت القعود في أماكنها حتى يفرغ الصف ويقل الزحام.
ولم يعلم من فضّل الانتظار قاعدًا أن فيلمًا فكاهيًا على وشك الحدوث أمامه.
نفيدك أيها القارئ أن كل هؤلاء الركاب مقبلون على طيارة تنتمي لإحدى شركات الطيران الاقتصادي.
حيث الحقيبة المسموح حملها للطائرة هي حقيبة ذات ابعاد محددة، بحجم حقيبة ظهر تقريبًا، وأي حقيبة إضافية تُحسب بمبلغ إضافي.
الآن وقد وصلنا على اعتاب بوابة الطيارة فإن أي حقيبة إضافية لم يتم دفع ثمنها مسبقًا تُلزم الشركة صاحبها بدفع غرامة قيمتها ٢٠٠ يورو.
كل ذلك مذكور في موقعهم الالكتروني وفي صفحة حجز التذاكر التي على ما يبدو لم يقرأها منهم أحد.
مر مسؤول الحقائب على الصف وهو يحمل بيده لفة من الشرائط، يقطع منها واحدةً ويلصقها بحقيبة المسافر، بعد أن يلقي نظرة على حجم حقيبته وما احتوته تذكرته من مزايا.
كان عمله يسري بسلاسة حتى وقع نظره على المرأة التي تسافر منفردة وتحمل ثلاثة حقائب.
أخرجها من الصف وقادها إلى المقدمة، وأراها لوحة الارشادات التي تحوي المقاسات بينما يشرح لها بكل هدوء ما اقترفته ويأتي بذكر دفع الغرامة. كلامه قد مس الثوابت التي تمشي عليها. شككها في مدى مصداقية كل شيء حولها.
- أنكرت وتلبسها الغضب "لماذا تخبرني بهذا الآن ونحن عند الطائرة؟ لم يخبرني أحدٌ مسبقًا وهذا ليس خطأي، كما أنني قد أتيت بها من بلدي على نفس الطائرة ولم يمنع صعودي أحد. إنك متأخر للغاية ولذلك لا يحق لك أن تجعلني أدفع ولم يكن لي علم مسبق بذلك".
- حاول كبحها قائلًا "إن هذه هي القوانين وعليكِ دفع الغرامة"
أخرجت هاتفها لتريه دليلها غير القابل للتمحيص والمتمثل في فاتورة شراء التذكرة "انظر دفعت ثمن متاعي مسبقًا وأريد دليلًا على افتراضاتك الواهية"
حمل حقيبتها وحاول حشرها في صندوق حديدي يمثل المساحة المسموح بها لصعود الطائرة وعجز عن إدخالها. ومن ثم أحضر مترًا لقياس الحقيبة. كل ذلك ليوضح لها مدى خرقها للقوانين.
أثارت الفوضى في المكان بعنادها، ورفضت الدفع قطعيًا. بينما تركها الموظف تنازع بأقوالها وتفعل ما تشاء دون أن يعيدها إلى صف الصاعدين إلى الطائرة، وأكمل هو عمله في تفقد الحقائب وتوزيع الشرائط.
عاد ينقب في الصف فإذا به يجد رجلي الاحرام وحقائبهم الأربعة. أخرجهم من الصف تاليًا واحضرهم للمقدمة ليعيد عليهم السياسات والقوانين.
تدخلت المرأة التي أقصاها من الصف قبل قليل قائلة "كيف تفسر لي سماحك لهم بحمل كل هذا بينهما تجبرني على دفع غرامة؟"
ابتسم الموظف واجابها دون أن يحيد بنظره عن أمامه "ستُفرض عليهم الغرامة كما فرضتها عليكِ" وأكمل مسيره.
تبادل الرجلين النظرات ومن ثم جلسا على إحدى الكراسي القريبة بكل هدوء وبدأوا بإفراغ الحقيبتين الاضافيتين والتخلص من الحمل الزائد.
جلست المرأة بجوارهم متعجبة من خضوعهما السريع وسألتهم "هل كنتم تعلمون بهذه القوانين؟"
أجاب أحدهما "لا لم نعلم" ومن ثم أكملا افراغ الحقائب والتخلص منها، ومن ثم الرجوع للصف.
خلال ذلك أخرج الموظف الثنائي الذي اتخذ من التسوق غايته الكبرى وأعاد على مسامعهم ما قاله لمن قبلهم. أبدوا تعجبهم في البداية وأرادوا الاعتراض، ولكن سرعان ما رضخا عندما قام أحدٌ من القاعدين بشرح السياسات متخطيًا حاجز اللغة الذي كان بينهم وبين مسؤول الحقائب، فقد تمادوا في خرق الأنظمة، وعلى أحدهم إنهاء المشاكل.
وبالفعل مثل الذين سبقوهم جلسوا على الكراسي وأفرغوا محتويات الحقائب المخالفة في عدة أكياس استعاروها ممن حولهم ومن ثم وقفوا في الصف من جديد.
رضخ جميع المخالفين ما عدا تلك المرأة، ظلت تسعى بالمطالبة بالتجاوز عن حقيبتها كأنه حق من حقوقها.
تقدمت للموظفين خلف المنضدة وعبرت عن شكواها فأنهت الموظفة المحادثة بجملة واحدة "لا دفع، لا ركوب للطائرة".
وما بين متعجب ومستاء مما يحدث، تبرع أحد المسافرين قليلي المتاع أن يحمل حقيبتها ويتسلل بها إلى داخل الطائرة.
أخرج إحدى المناشف من حقيبته وقام بثلاثة عقد. اثنتين على طرفي الحقيبة السفلي، والثالثة على مقبض الحقيبة العلوي، ومن ثم مرر يديه من خلال المنشفة وحملها على ظهره محاكيًا بذلك طريقة حمل حقيبة الظهر المسموح بها داخل الطائرة.
أرادا التحايل على القانون والتهرب من دفع الغرامة.
كان موظف شركة الطيران متجاهلًا ما يقولون ويفعلون حتى اللحظة، لكنه بعد فعلتهم تقدم راسمًا على محياه الجدية
- وقال "سيتوجب علي طلب الشرطة".
- اختفت ابتسامته التي رسمها اعتقاده بدهائه وقال "لماذا ما الذي فعلته؟"
- "إنك تحمل أمتعة ليست لك، وتريد التحايل على القانون"
انكمشت المرأة المخالفة وأدركت جدية الأمر. أخذت حقيبتها من على ظهره ودفعت الغرامة منهية بذلك كل المشاكل.
وهكذا انتهت معضلة الحقائب واستطاع الركاب ركوب الطائرة.
حكمة: احمد ربك عندما يتغافل عنك الناس ويتجاوزوا أفعالك، ولكن لا تصل بك البجاحة أن تظن أن ذلك من حقوقك.
0 تعليقات