في يومٍ تتقطع فيه الطرق



سمعت عن هذا اليوم كثيرًا

اليوم المشهود الذي يخرج فيه كل الناس للشوارع ويختلطون بحجاج البيت الحرام.

تجد فيه المار برجليه أسرع من سيارة مزودة بخمسة محركات، والطريق البديهي مسدودًا من كل الاتجاهات، والذي يجعل الوصول الى مبتغاك بعيد المدى، أو حتى مستحيلًا أحيانًا.

تصيبك قلة الحيلة وأنت ترى المبتغى أمامك تمامًا، ولكن يداك لا تقربه، ويراودك القلق عندما تعلم أنك قد لا تصل، وتشعر باليأس عندما تقترب من الوصول ويعيقك حاجز سخيف تستطيع دفعه بيديك لولا القوانين.

هذا ما لم اتصوره عندما أخبروني أن أصلي الفجر واستقل سيارتي لأصل على أقل تقدير قبل الثامنة صباحًا حيث التحضير الصباحي.

 

بدأت رحلتي ذلك اليوم الساعة الرابعة فجرًا عندما اندلع صوت منبهي، ولم تنتهي حتى بعد استسلامي وعودتي للمنزل بعدها بخمسة ساعات، فقد ظلت التجربة المريرة تلاحقني كلما أغلقت عيني للاسترخاء

وعندما تظن أنني قد شفيت من الصدمة تجدني من حرصي على عدم تكرار التجربة أسابق الشروق وأسعى في الظلام للوصول لغايتي، حتى وإن عنى ذلك الوصول قبل الموعد بثلاث ساعات.

 

 بدأ ذلك اليوم أبكر من العادة لكنه بدا اعتياديا.

لم امتلك وقتًا لتناول الافطار فبيّت في نفسي نية تناول الافطار في المستشفى. وهذا ما لم يحدث كما سوف أتلو لاحقًا.

 

انطلقت بسيارتي على ضوء القمر الذي ظل ينير الطريق حتى تشرق الشمس في ميعادها. لم اسمع صوت خطو جارنا للمسجد لأن الفجر لم يقم بعد، وحتى عصافير الصباح من غياب زقزقتها علمت أنها نائمة.

 

إنني أحفظ الطريق للمستشفى عن ظهر قلب، فهو يقع في قلب مكة المكرمة، بين فنادق المعتمرين والحجاج. لكنني فتحت خرائط قوقل لأننا نقبل على يومٍ تتغير فيه معالم الطرق حتى تقترب من كونها مدينة أخرى، وهذا كان أكبر أخطائي.

 

وفي الشاشة رأيت طريق المستشفى الذي يستغرق ١٤ دقيقة عادة سيستغرق مني اليوم ٣٨ دقيقة، ترددت للحظة، ولكنني حمدت الله أن الساعة لازلت الرابعة فجرًا والدوام لا يبدأ سوى في الثامنة. حركت وكلي أمل أن أصل خلال الوقت المقدر.

 

سرت خلال شوارع الحي الفارغة وواتاني شعور بالثقة أنني قد خرجت قبل بقية البشر ولن أواجه الزحمة المتوقعة.

 

ولكن الصدمة كانت ما إن خرجت من الحي واتجهت ناحية المشفى حتى رأيت السيارات تصطف خلف بعضها في مسيرة ليس لها أول ولا آخر، أنوار السيارات المتوقفة قد جعل نور القمر يبهت ويبتعد عن ناظري فلا أرى من الشارع سوى طرق مسدودة لا تؤدي إلى أي مكان.

 

شرقت الشمس وأنا لم ابتعد عن منزلي سوى عدة كيلومترات، واستيقظ الحجاج مع شروقها ساعين الخطى نحو المسجد الحرام.

 

ما تلى ذلك هو سلسلة من الكوابيس اذكرها بشكل متقطع من تشابكها.

الحاج الذي ينتظر الاشارة لتصبح خضراء حتى يعبر ويعرقل السير فوق ما هو معرقل، والحاج الذي سئم من الانتظار في التاكسي فيخرج بلا مبالاة حتى وإن عنى ذلك دق متاعه في سيارتي، والحاجية التي تقف أمام السيارة وتلح في الطلب 'وصلينا إلى الحرم المكي'، والعسكري الذي أغلق الطرق ولم يتوان عن ردي خائبة كلما اقتربت من منعطف يؤدي لباب المستشفى. كلها مقتطفات مقتضبة لا تشرح عمق الأثر النفسي الذي تركته التجربة.

 

لففت حول مسعاي ٣ مرات، وفي كل مرة يحجبني عنه شيء وأضطر للالتفاف والعودة من طريق آخر.

انتهى بي المطاف في أحد الأزقة التي تبعد عن المستشفى ١.٢ كم، بعد أن قضيت ٥ ساعات محتجزة في سيارتي دون أن أجد موقفًا أركنها فيه وأكمل سيرًا على الأقدام، أو طريقًا يوصلنا معًا.

 

بلغ الجوع مبلغه فتناولت بضع لقيمات تسكت جوعي في سيارتي الواقفة منذ نصف ساعة وسط الشارع النشط بالحركة، بينما مرارة الدمع تكسو وجهي.

يئست من الوصول وأيقنت أن كل الطرق لا تؤدي إلى حيث أريد.

أعلنت الاستسلام وأرسلته علنًا للجميع بينما أتوجه للبيت دون أن أنتظر الرد


في يومٍ تتقطع فيه الطرق

.

    إرسال تعليق

    0 تعليقات